الأحد، يناير 05، 2014

ماذا حدث عندما تعطل مؤشر نزول عجلات إحدى الطائرات



 
لعل المواقف والأحداث الخارجة عن المألوف في واقع مهنة المراقبة الجوية لا حصر لها. تجدها تأخذ عدة أشكال يصعب التنبؤ لها. 

فالمراقب الجوي عندما يغادر منزله ويودّع أبنائه حاملاً معه سلاحه المتمثل في سمّاعته لينطلق في رحلة يشوبها الغموض، رحلة الذهاب إلى العمل. لا يعلم مالذي ينتظره في علم الغيب.

لست مبالغاً إن وصفت بأن الحريص منهم تجده يتحصّن بالأذكار ليسأل الله أن يعطيه خير هذه المسؤولية فأرواح الآلاف من البشر بعد عناية الله و حفظه ملقاة على عاتقه. 

لعل الجميل في الأحداث الغير اعتيادية في أروقة المراقبة الجوية بأنها تضيف للشخص مزيداً من الخبرات و تزيد ثقته بنفسه إذا ما مرّت الأمور بسلام.. 

ذات ليلة كنت أعمل في برج المراقبة الجوية بأحد المطارات الدولية، حينها كنت حديثُ عهدٍ برخصتي والتي منحتني الإجازة للعمل في جميع المواقع الخاصة بالبرج دون أن يقف مدربي على رأسي وقتها مازالت في بداياتي العملية،

عشقي لهذه المهنة يجعلني أحرص على الحضور مبكراً لأظفر أولاً بإستلام الموقع قبل زميلي في بداية النوبة نتسابق ليس من فراغ بل عشقاً لهذا العمل وأسألوا زملائي عن ذلك..

الصيف وما أدراك ما الحركة الجوية صيفاً بهذا المطار..

استملت موقع (المراقب المحلي) وهو المسؤول عن تنظيم حركة الإقلاع والهبوط في المدارج.
 
الثلاث مدارج بالمطار تعمل بكامل طاقاتها لتيسير حركة الإقلاع والهبوط..

الطائرات تتهافت من كل حدَبٍ وصوب.. 

مجموعة من الطائرات تخبرك بإستعدادها للإقلاع.. و سرب آخر كالعِقد المرصوص بإحكام يقتربون للهبوط بالمدرجين الشرقي والأوسط..

مرت الساعة الأولى بسلام وحركة الطائرات القادمة و المغادرة تزداد كلما مر بنا الوقت، أغلب الطائرات الضخمة ذو النطاق العريض والتي تسافر لأقاصي الأرض تغادر في وقت متأخر ليلاً بسبب ثقل حجمها و قلة كثافة الهواء صيفاً نظراً لإرتفاع درجات الحرارة والرطوبة في الجو..

اتصل بي على الخط الساخن مراقب الإقتراب الآلي الراداري -المسؤول عن تنظيم الطائرات المغادرة والقادمة للمطار في الأجواء - ليخبرني بقدوم طائرة للمطار ابلغه قائدها بوجود مؤشر يشير لعدم نزول إطارات وعجلات الهبوط، وبأنه يعلن حالة الطوارئ..

عندها تلقيت منه كافة المعلومات المطلوبة عن الطائرة وعدد ركابها، بعدها اخبرت مشرفي بالحالة، والذي بدوره قام بإبلاغ كلاً من وحدة الإطفاء والإنقاذ، و عمليات المطار لأخذ الإستعدادات الازمة داخل المطار، بعد أن قمنا بإعلان حالة الطوارئ من الدرجة الثانية - والتي تعني ان الطائرة قد تتعرض لخطر ويجب الإستعداد بالقرب منها.

ماهيَ إلا ثواني معدودة وإذ بممرات المطار تعج بسيارات الإطفاء و العمليات و كافة القطاعات المعنية داخل المطار..

تم تخصيص أحد المدارج لهذه الطائرة ليتم توحيد و  تركيز جهود المعنيين بحالتها في مدرج معيّن ليكون الجميع على أهبّة الإستعداد..

تأخرت الطائرة قليلاً لتفريغ بعض الوقود، لتتمكن من تخفيف وزنها بعض الشئ، مرت عدة دقائق وإذا بقائد الطائرة المعنية يتصل بي على موجة الراديو.. 

مازالت اتذكر ذلك الصوت والذي بدأت عليه نبرة القلق والإرتباك..

قائد الطائرة: برج المراقب المحلي.. السلام عليكم نحن الرحلة رقم كذا وكذا.. نطلب عمل إقتراب منخفض ليتسنى لكم ولموظفي الإطفاء والعمليات بملاحظة ما إذا كانت العجلات منخفضة للأسفل و ماخذة وضعها الطبيعي للهبوط أم لا.
  
برج المراقبة: وعليكم السلام الرحلة رقم كذا وكذا استمر بالإقتراب تم توفير وتجهيز كافة الإجراءات لحالتك، استمر بالإقتراب، ومصرح لك عملية الإقتراب المنخفض، اتجاه الرياح شمالي غربي و سرعتها هادئة.. بعد الإقتراب المنخفض إرتفع لـ٢٥٠٠ قدم  واتصل بمراقب الإقتراب الراداري من جديد للعودة مرة أخرى.

اقتربت الطائرة منخفضةً المرة الأولى و قام الزملاء بالميدان بتأكيد نزول الإطارات للأسفل، اخبرت قائد الطائرة حينها، فطلب مني عمل إقتراب آخر منخفض للتأكيد و مازالت النبرة الأولى لم تتغير.. بعدما صعد و أرتفع من جديد عاد مرة أخرى ليلتحق بنظام الهبوط الآلي على مسافة ١٠ أميال لعمل إقتراب منخفض آخر ليطمئن قلبه.. 

صرّحت له مرة أخرى بنفس التصريح السابق للإقتراب المنخفض وبعد أن حلّق فوق المدرج منخفضاً، أكّد جميع المتواجدين بالميدان بنزول عجلات الطائرة وأخذها للوضع السليم.. عندها طمئنت قائد الطائرة، و حوّلته للوهلة الثالثة لمراقب الإقتراب، لتوجيه الطائرة مرة أخرى لنقطة الإقتراب النهائي لمدرج الهبوط.. 

مرحلة القدوم الآخيرة.. لم تكن الطائرة هيَ الوحيدة.. مازالت الطائرات الأخرى كالنحل في المدراج الأخرى مستمرة بالإقلاع والهبوط ولكن عند قدوم الطائرة المعنية في اللحظات الاخيرة ساد الصمت أرجاء البرج و عم الهدوء على موجة الراديو، الكل يحدّقون بأعينهم نحو الطائرة في مراحلها النهائية.. سيارات الإطفاء.. العمليات.. أنوار السيارات تحيط بالمدرج فالكل واقفٌ يترقّب..

حانت اللحظة التي كنت اشعر حينها بأن الزمن قد توقف لم اعد اسمع أي شئ يذكر حولي. العرق بدى على جبيني.. ترقّب شديد لعملية تقبيل عجلات الطائرة لأرضية المدرج..  توقف الدم في عروقي.. حطت الطائرة عجلاتها الخلفية وبعدها ارتفعت قليلاً وارتفعت معها نبضات قلبي، لتعود بعدها وتحط كامل رحالاها على أرضية المدرج بعجلاتها الخلفية والأمامية.

هنا هبطت الطائرة بسلام و لله الحمد وانطلقت بعض سيارات الإطفاء على جنبات المدرج خلف الطائرة.. 
واقعة أولى أضافت لرصيدي من الخبرات ما يجعلني أتعوّد شيئاً فشيئاً على طبيعة عمل مهنتي و التي يصعب التنبئ لأسرارها. 

مهنة المراقبة الجوية وإدارة الأجواء والحركة الجوية لا كبير فيها. قد تباغت الأحداث فيها الصغير قبل الكبير.
 
يقال في عالم الطيران بأنه من السهل ان تقلع من الأرض ولكن المحك الحقيقي يكمن في ان تعود لها بسلام.  

ومع ذلك فمثل هذه الأحداث بالرغم من وجودها إلا أنها تكون رحلة من ملايين الرحلات التي تهبط على مدار الساعة بسلام دون أي عقبات تذكر.

لن يخبروك في الاخبار بملايين الطائرات التي هبطت بأمان.

ألقاكم مع صفحات من مذكراتي

قصة واقعية من 
#مذكرات_مراقب_جوي  


رواية عبدالله بن سلمان
@Binsalman